مقال

ويظل بينهم الركام والغياب وهزات الأرض

بواسطة
في
فبراير 17, 2023

يَهُزُّ الزلزال قلب الأرض وجوانح الإنسان، ويتركه مقتولًا أو مبتورًا مبعثرًا دون سقف أو مأوى أو أحبة.

يبدو أن الضحايا يتساوون فى الكارثة، لكنهم للأسف لا ينالون نفس الحق فى المساعدة، فلقد حُرِم شمال غرب سوريا من المساعدات رغم آلاف الإيميلات إلى اليونسيف والأمم المتحدة والدول المعنية.. لم يهتز جفنٌ للمتعاطفين قولًا.

فعانى البؤساء من إهمال البنية التحتية فى الأساس، ثم من آثار الحرب الأهلية المُدَمِّرة، وجاء الزلزالُ بكل توابِعه ليحرم الأهل من ذويهم، والآباء من أبنائهم؛ فترسم بنتٌ حلبية رسمًا مُعبرًا لمئذنةٍ مائلة وأطلالٍ متناثرة وأحياء موتى على قيدِ الحياة.

إن الكارثة الطبيعية والإنسانية المفزعة استجاب لها العالم بذرف الدموع وحفنة دولارات لا تصل إلى ذرةِ من مئات المليارات ثمن سلاح الغرب إلى أوكرانيا.. نعم، فلربما حملت المأساة تحذيرات ودروسًا قد تمتد إلى ما هو أبعد من البلدين اللذين ضربتهما الزلازل.

إنها وحشية الطبيعة.. صدمات وانفجارات وزلازل وبراكين وعواصف وفيضانات واندفاعٌ صامت يدفع مخزون الأرض الغاضبة فى العمق إلى السطح، وكأنها أنَّاتُ الحزن والأسى لقلب الطبيعة المكلوم.

وفقًا لدراسات مختلفة، ترتبط الزلازل والصحة النفسية ارتباطًا وثيقًا؛ لأن الزلازل مثل جميع الكوارث الطبيعية الأخرى، لها آثارٌ نفسية عميقة وحادة، تستَقِرُّ فى القلب كالسكين الثلمة؛ لا تقتل ولكن تستمر فى الإيلام والخوف والفقد والألم.

الزلازل أحداثُ حياةٍ مفاجئة ومؤلمة وساحقة للغاية.. وعلى الرغم من أن عمليات الإنقاذ الأولية التى يتم إجراؤها والمُهتمة بالأضرار المادية الواضحة، إلا أن ارتفاعًا هائلًا فى قضايا الصحة النفسية بدأ قبل كارثة الزلزال ويستمرُّ لعقودٍ آتية.

فى دراسة أجريت بعد عامين من زلزال هايتى عام 2010، وجدت الأكاديمية الأمريكية لطب النوم أن 94% من الأفراد أبلغوا عن أعراض الأرق.. إلى جانب ذلك كان هناك التعب أثناء النهار وقِصَر وقت النوم والكوابيس لدى الأطفال والمراهقين، وبعد أربعة أشهر من زلزال اليابان المُدَمِّر عام 2015 كانت هناك علاقة كبيرة بين الزلازل والاكتئاب، حيثُ عانى واحد من كل ثلاثة بالغين من الاكتئاب وغضبٍ جامّ.

يرتبط كرب ما بعد الصدمة PTSD والزلازل ارتباطًا كبيرًا، وهو واحد من أكثر الاضطرابات انتشارًا بعد الزلازل، نتيجةً الموت والإصابة وتلف الممتلكات، كما وُجد أن أعضاء فرق عمليات الإنقاذ والمُسْعِفِين الذين تم توظيفهم أثناء الزلازل تأثرت صحتهم النفسية سلبًا بشكلٍ كبير.

كما تشير جميع الأدلة إلى الأهمية الكبيرة للعوامل المُسَبِّبَة للصدمة وتحليلها وعلاجها، من أجل التخفيف من تلك الأثقال على صدور العاملين وأهالى الضحايا والمُصابين. كما شكلَت اضطرابات النوم فى أعقاب الزلازل عَرَضًا مُهمًّا، نتيجة الإجهاد الشديد والقلق PTSD وهول الكارثة الراقد فى العقل الباطن، والمشتعل فى العقل الواعى يُعذِّبه ويؤلمه.

خدمات الصحة النفسية واحدةٌ من أكثر الاحتياجات إلحاحًا فى أعقاب أى كارثة طبيعية، لكنها ستظلّ فى الظلّ مما يزيد من مخاطر الصحة النفسية والسلوكية، لتكمن الأعراض غير مرئية وغير مسموعة وغير معترف بها لسنوات بين الناجين.

قد تلقى الاحتياجات الحيوية مثل السُكنى والغذاء والدواء ضرورية وفورية للضحايا، لكنها للأسف تكون على حساب الحاجة الماسة لمعالجة قضايا الصحة النفسية، ولنا أن نتعلَّم أنه مع الوجبات والملابس، يحتاج الناس إلى ربتةٍ على الظهر والبوح المُنظَّم والعلاج النفسى التدعيمى والتحليلى بكافة صُوره.

عندما نشهد من بعيد ذلك الدمار المُروِّع الذى أحدثه زلزال سوريا وتركيا، نتأثر جميعًا بما يُسمَّى «الصدمة الجماعية»؛ فتتكسَّر لدينا أوهام الأمان والمناعة؛ فلا أحد مُحصَّن ضد الصدمة والأذى والموت والخسارة، كاحتمالاتٍ واردة تهدد استقرارنا ونحن نيامُ على أسرّتنا الدافئة.

تقول مرام ناصر، الإخصائية الإكلينيكية الحلبية: «يجب ألّا نُقحم الناجين والشاهدين على الزلزال أن يحدّثوك عما حصل بشكل تفصيلى فى التوِّ واللحظة.. وإذا حدثك شخص عما حدث استمع له بإنصات، ولا تحاول تهدئته من خارج الموقف بكلماتٍ مُعتادة، ولا تقطع استرساله ولا تُوقِف تعبيره عمّا حدث أو عن مشاعره فيما لو أراد التعبير.. وابتعد عن تقييم حجم مشاعره وإخضاعها للمنطق».

«حبيبتى فى لحظة الظلام؛ لحظة التوهّج العذبة.. تصبح بين ساعدىّ جثّة رطبة.. ينكسر الشوق بداخلى، وتخفت الرغبة.. أموء فوق خدّها،

أضرع فوق نهدها.. أودّ لو أنفذ فى مسامّ جلدها، لكن.. يظلّ بيننا الزجاج.. والغياب.. والغربة!» أمل دنقل.

TAGS
RELATED POSTS
خليل فاضل
القاهرة، مصر

كاتب ومحلل نفسي، قاص وروائي، يعالج بالسيكودراما الحديثة في مصر، له مقال أسبوعي كل يوم جمعة ينشر في صحيفة المصري اليوم، كما تشهد له قنوات اليويتيوب بعديد من اللقاءات السخية نفسية واجتماعية، كما أنه يمارس مهنة الطب النفسي منذ حوالي 41 سنة

بحث
أحدث التعليقات