مقال

لا.. ليس مستشفى للمجانين

بواسطة
في
أبريل 21, 2023

العزيز حمدى رزق.. فى عمودك اليومى بتاريخ 12 /4 /2023 «تبرعوا لمستشفى المجانين».. ذكرت مستشفى العباسية للصحة النفسية، ورغم أن مقالك كان عن «التبرعات»، إلا أننى أختلف معك فى وجهة نظرك؛ فالمستشفى لا يحتاج إلى تبرعات بقدر ما يحتاج إلى نظرة إنسانية مختلفة تنقله إلى مصاف المصحات وأماكن الرعاية الموجودة فى أنحاءٍ كثيرة من العالم.. نحتاج إلى تفادى وصمةِ العار التى تخلط بين تطبيقات الطب النفسى الحديثة وبين الخزعبلات والأفلام والدجالين.. ولربما قد أوردت كلمة «المجانين» على سبيل الجذب الصحفى فقط، لأنك حسبما أعرفك لا تؤمن إلا بروح النص؛ بمعنى أن «الجنون» ما هو إلا تعبير مجازى أدبى قد يوازى بعض أعراض الأمراض النفسية الشديدة والحادّة، ولم يعد يُستخدم فى معظم أرجاء الأرض.

على سبيل المثال لا الحصر، على ضفاف نهر السين ترسو السفينة Adamant، وهى مركز نهارى علاجى تأهيلى يقع فى قلب باريس للأشخاص الذين يعانون من اضطرابات نفسية، إنها مركز عائم ومنفصل عن المدينة المحيطة به، ويقع فى وسط باريس الأنيقة المُزدحمة بالفنون والسائحين والسكان، إنها بمثابة ملاذ لأناس يفترض أنهم بعيدون عن بقية البشر، ومع ذلك فإن مشاكلهم تُجسِّد تمامًا هشاشة وتعقُّد الحالة الإنسانية عامةً.

علمتُ بها من فيلم وثائقى للمخرج الفرنسى Nicolas Philibert، فيلم On the Adamant وقد أخرجه بالتعاون مع طبيب نفسى مُعالج، ويعطى نظرة ثاقبة وحانية، كما يعرِض بروحٍ فنية مُحبة للمرضى ومقدِّمى الرعاية فى مركز للصحة النفسية النشاطات اليومية، وفاز بجائزة الدب الذهبى فى مهرجان برلين السينمائى 2023 كأفضل فيلم.

أمضى Philibert البالغ من العمر 72 عامًا شهورًا يتأمل العلاج الإبداعى والرعاية الإنسانية الحانية الخالية من أى مظهرٍ للتأفف أو الاستغلال، ويناقش قضايا الإبداع والفن والعقلانية والجنون، لكنه يفعل ذلك دون إكليشيهات أو مصطلحات أو تمييزات واضحة.

يقول فيليبرت: «لا أحب التصنيفات أو المُسَمَّيات الجاهزة، هذا الفيلم عن الطِب النفسى، لم نُفَرِّق بين المرضى النفسيين ومقدمِّى الرعاية لهم.. حاولت عكس الصورة المُتعارف عليها عن المرضى العقليين بأنهم يحملون على كاهلهم وصمة عار.. أردت أن نكون قادرين على رؤيتهم مثلنا لأنهم أناس عاديون»، وأنا أؤكد كطبيبٍ نفسى أن لا أحد خالٍ من عرَض نفسى، ولا أحد مُحصَّن ضد أى مرض.

تم افتتاح Adamant فى عام 2010، وهو عبارة عن هيكل كبير يشبه القارب، تم تصميمه بالتشاور مع المرضى.. وداخل المركز الذى يعمل كمنزل نهارى، نجد الاستوديوهات وغرف الاجتماعات ومساحات مفتوحة للموسيقى والرقص؛ وهناك أيضًا مكتبة مُكتظَّة بدواوين شعر مُلهمة، إنها «فرنسا» والإيمان بمركزية الفنون الواضح جدًا فى The Adamant.. والهدف الرئيسى منه كما تشير العناوين النهائية هو أن «الروح الشاعرية» تبقى وتينع، ونحن فى «مصر» بكل أبعادها الحضارية وفنونها المتنوعة وثقافتها الغنية وحضاراتها الضاربة فى الأعماق نحظى بالكثير من العقول المُستنيرة والسواعد القوية لإقامة مشروع أنيق مُتفرِّد يخدم المرضى وذويهم، ويحارب وصمة العار التى لا تزال قائمة.

هل لنا أن نتعلّم من تلك التجربة Adamant أن الإمكانيات الإيجابية موجودةٌ بيننا لنقيم منهجًا للمواجدة؛ أى التعايش داخل إحساس الآخرين المُتعبين، ونتمحور حول ثقافة إنسانية تأهيلية وغير تمييزية للرعاية النفسية؟!

نحن ملتزمون بالتفاؤل، لأننا نؤمن بأن المرض النفسى ليس شيئًا نخجل منه، لكنّ وصمة العار التى نلحقها به عارٌ لنا جميعًا، وهى من أهم العوائق المحيطة بالصحة النفسية وخدماتها.. وعندما تتفشَّى فإنها تُمثل موقفًا سلبيًا تجاه حالة أو شخص، مما يؤدى إلى الجمود والانغلاق.

 

رأي

TAGS
RELATED POSTS
خليل فاضل
القاهرة، مصر

كاتب ومحلل نفسي، قاص وروائي، يعالج بالسيكودراما الحديثة في مصر، له مقال أسبوعي كل يوم جمعة ينشر في صحيفة المصري اليوم، كما تشهد له قنوات اليويتيوب بعديد من اللقاءات السخية نفسية واجتماعية، كما أنه يمارس مهنة الطب النفسي منذ حوالي 41 سنة

بحث
أحدث التعليقات