مقال

تنظيفُ النفْسِ من سُخَامِها

بواسطة
في
يونيو 30, 2023

لكلِّ نفسٍ سُخَامها «والسُّخام يعنى السَوَاد والوَسَخ الذى تتركه النار فى مدْخنة المدفأة بعدما تنطفئ»؛ فيلجأ المُنَظِّف إلى مكنسةٍ خاصة لتنظيف وتسليك الداخل حتى تستطيع النار أن تنطلق طليقةً، وهكذا الطاقة الإنسانية للعَمَل والحُب والإنتاج.

لكلِّ نفسٍ سُخَامها «والسُّخام يعنى السَوَاد والوَسَخ الذى تتركه النار فى مدْخنة المدفأة بعدما تنطفئ»؛ فيلجأ المُنَظِّف إلى مكنسةٍ خاصة لتنظيف وتسليك الداخل حتى تستطيع النار أن تنطلق طليقةً، وهكذا الطاقة الإنسانية للعَمَل والحُب والإنتاج.

ولأن هناك ما يعطِّل كل ذلك منذ ولادة الإنسان حتى لحظةِ اتخاذه القرار بالعمَل على تنظيف داخله من السُخام والوسَخ.. التعبير الأصلى لفرويد Sweeping the Chimney، وتبرز هنا نقطتان مهمتان.. الأولى تحديد صدمات الطفولة وما بعدها، ثم العمل على ترميمها وعلاجها وتحليلها وتفسيرها وتوضيحها، وليس على إعادةِ الصدمة بإعادة الأحداثِ مرةً أخرى؛ ففى «الاستدعاء الطليق Free Association تُنَظَّف النفس لتنساب كجدولٍ بلا قيود، مما يُؤدّى إلى (التَطَهُّر Catharsis)»، ويعنى هذا إزالة المقاومة والعقبات وعدم الاعتراف بالاضطراب وقبوله، وعدم الاستبصار ورؤية ما يحدُث وما حدَث واستشراف المستقبل جيدًا دون عُقَد.

عملية تطهير النفس Catharsis أصلها إغريقى، وتعنى التطْهير والتنْظيف من أجل التجديد والترميم واستعادة القوى، وهدفها التغيير الإيجابى فى حياة الإنسان.. هذه العملية يجب أن تُمارَس باحترافيةٍ شديدة، خصوصًا لهؤلاء الذين مرُّوا بصدماتٍ شديدة فى الطفولة، كالاعتداء الجنسى أو الجسدى أو إساءة معاملة الوالدين، أو الاغتصاب أو القسوة والعنف المنزلى، أو معايشة مرضٍ مزمن والتعرُّض للإهانة والذُل والعَوَز.

إن عملية تطهير النفس من سُخامها عملية انفعالية قوية، عندما تنجح يَعِى الإنسان أنه تغيَّر وصار إيجابيًّا. وطبقًا لنظرية التحليل النفسى؛ فإن ذلك الانسياب الانفعالى لمكبوتاتِ النفس ومكنوناتها، وما يُكتَم عادةً فلا يُقال، يحتاج إلى عمليةٍ احترافية تُحرِّر العقل الباطن من صراعاته، وتحلّ العقد وتُفكِّكُها كما تُفَك الخيوط من بعضها البعض كى يستطيع المُعالج والمُتعالج أن ينسجا قماشةً سويةً مرتاحة؛ وهكذا فإن مَن يعانون الإحباط والتوتر بسبب ضغوط العمل.

ومَن يعانون اضطرابات تناول الطعام والخوف والغضَب والصدَمات المتتالية، تتراكم داخلهم مشاعر دفينة وأليمة، وعند نقطة الاختراق ينبثقُ غليانٌ، وربما انهيار فى القُوى الإدراكية، مما يؤدى إلى عواقب وأحاسيس غير مُحتملة من الهلع والاكتئاب وفقدان الشغف وتمنى الموت، ويُحسُّ الإنسان أنه على وشك الانفجار لأنه غير قادر على إخراج ذلك البخار من ذلك القدر المكتوم الذى يغلى فوق النار؛ فيتحول ذلك الغضب الداخلى والأحاسيس الجُوانيّة إلى مشاعر وأحاسيس سلبية أو أعراض جسدية تقوده إلى التسوُّق الطبى، وابتلاع المسكنات والمُهدِّئات، وينتقلُ من عرضٍ إلى آخر، ومن تخصصٍ طبى إلى آخر دون هدفٍ أو فائدة.

يحوى العقل الواعى كل ما يمُرّ به الإنسان فى حياته اليومية، أمَّا ما فى منطقةِ تحت الوعى؛ فتتراكم الآلام، وتكون هناك صعوبة فى إخراجها، لهذا فإن التحليل النفسى بالاسترخاء أو التنويم الإيحائى يؤدى إلى إخراج المكبوتات والآلام بشكلٍ صحى.

فى حياتنا اليومية نستطيع أن نُنَظِّف السُّخَام بإغلاق الملفات المفتوحة مع الأقارب أو زملاء العمل أو شريك الزواج بالانفصال عن حياةٍ زوجيةٍ جحيمية، فيبدأ الإحساس بالسلام الداخلى والخارجى، وهى عملية قاسية ومزعجة.

ومن مواقف الشدَّة الأخرى الإصابة فجأةً بمرضٍ عُضَال، أو فقدان وظيفة أو حادث سيارةٍ رهيب، أو فقدان عزيز، مما يؤدى إلى تخزين الانفعالات والمشاعر القاسية، التى لابد من التخلص منها بعملية التنفيس الانفعالى.

أما فى الحالات الخفيفة، فليس بالضرورة أن تستلقى على شيزلونج التحليل النفسى فى عيادة الطبيب وتقوم بالاستدعاء الطليق، ولكن من الممكن أن تتحدث مع صديقٍ حميم وتحكى له المشكلة، أو أن تستمع إلى موسيقى تُحبُّها أو بودكاست تستفيد منه، أو أن تشاهد لوحةً فنية تُضيف إليك تأملًا، أو أن تمارس الرياضة، أو أن تنخرط فى ورش سيكودراما «المسرح العلاجى النفسى»، أو أن تبدأ فى كتابة يومياتك أو آلامك وأحداثك، وتذكَّر أن المشاعر الصعبة والمُركّبة والأليمة والمعقَّدة لها أخطارها لأنها مُتَجَذِّرَة فى العقل الباطن منذ سنوات الطفولة الأولى وما بعدها.

إن فتح الجُرح لابد أن يكون بمهارةٍ واحترافية قبل تضميده حتى يغلق على نظافة، وإن عملية تطهير النفس من سُخامها ستُحررك من المشاعر الأليمة والصعبة والدفينة، بحيث يكون كيانك مطواعًا بين يديك لكى تتعامل بخفّةٍ ورشاقةٍ مع أمورٍ تبدو جسيمة، كوسواس الموت والضجر واليأس والعجز المكتسب وعدم القدرة على تخطِّى الأمور والبدء من جديد، لتصبح قرير العين كنبعٍ صافٍ رائق، تسبحُ فى بُحيرة الأمان.

TAGS
RELATED POSTS
خليل فاضل
القاهرة، مصر

كاتب ومحلل نفسي، قاص وروائي، يعالج بالسيكودراما الحديثة في مصر، له مقال أسبوعي كل يوم جمعة ينشر في صحيفة المصري اليوم، كما تشهد له قنوات اليويتيوب بعديد من اللقاءات السخية نفسية واجتماعية، كما أنه يمارس مهنة الطب النفسي منذ حوالي 41 سنة

بحث
أحدث التعليقات