مقال

الإنسان الجميل

بواسطة
في
أغسطس 4, 2023

الإنسان الجميل.. ليس بالضرورة أن يكون اسمًا أو شخصًا بعينه، أو أنه/ أنها يحمل صفات نحدِّدُه بها، ونرسم شكله وملامحه، ولا هو مُبهم أو مجهول، إنه معنا وحولنا ونراه/ ها يوميًّا، ولكن معه/ ها تحِسُّ فعلًا بمعنى الجمال والإنسانية.

كان أحدهم قد أتى من الغربة، من مكانه خارج البلاد فى الصحراء القاحلة، استرعى انتباهه، وهو فى مرآب سيارات العمارة، أنه لا مكان للسُوَّاس يقضون فيه حاجتهم، وأن قيظ الحر يخنقهم؛ فأتى بمُكَيِّف هواء، وتمنَّى على المسؤولين أن يتدبروا مكانًا يليق بالعاملين يقضون فيه حاجتهم، هذا هو إنسان جميل.. حينما تحادثه لا تستبطِن خدعةً أو شكًّا، لكنك تُحس بالأمان المُطلق، وبراحتك الشديدة فى البوح والانفعال، وتدرى تمامًا أنه لن يحكُم عليك، ولن يتحكَّم فيك، ولن يتمكَّن منك، حتى لو أصبحت كتابًا يقرؤه مُرَحِبًا.

وتلك التى تحسبها غنيةً مِنَ التَّعَفُّفِ، تَعْرِفُهُا بسَمتِها وطيبِ خُلُقِها؛ فترى طيبتها بريقًا يلمعُ فى عينيها، حتى إن امرأةً مرموقة قالت لما رأتها: «أتمنى أن أكون مثلها»، بسيطةٌ تأكل خبز يومِها مغموسًا بالعرق، وتعيش ببساطةٍ، لا تسألُ زيادةً فى الرزقٍ فيأتيها مضاعفًا، وتبتسمُ رغم الكرب والظلم.

إنها الابنة التى تتصَدَّق فى صمت لحياة أبيها، بتوصيل مياهٍ نقيةٍ إلى قريةٍ نائيةٍ منسية، وتلك التى انفصلت ووهبت حياتها لتربية ابنتها، وفتحت لنفسها طاقةَ نورٍ فى ورش التمثيل، وذلك الرجل الذى يفتحُ بابًا تدخلُ منه الكلمات والمعانى إلى القُرَّاء ويبسط الصفحات بسخاءٍ وأريحية.

إنه الإنسان الجميل الذى يكون بسيطًا بساطة الماءِ الرائق ينحدر سلسًا فى الجدول، ويسعى فى الأرض على دراجته المُتهالكة فى الشمس الحارقة، يسند بيدٍ أرغفة الخبز على لوحين من الجريد فوق رأسه، وباليدِ الأخرى يجيب على طلبات الزبائن بالموبايل، بطريقةٍ مصرية فَذَّة للتحايل على شظفِ العَيْش.

الإنسان الجميل موضوعىّ، لطيف المعشر، وعذب الحديث، لا يذكر الناس بسوء، بل يشكرهم لتأدبهم، ويفرح لفرحك، ويبتسم على الدوام دون سخف.

إن الدنيا مليئة بالبشر الأكثر جمالًا رأيتهم بأم عينى حينما كنت طبيبًا فى الريف المصرى، يضحكون من قلوبهم عاليًا، ويفرحون بالقليل، ولا يهمهم الثرى القابع فى بيته، وينزعجون من الشر وممَّا حولهم من فسادٍ قِيَمى، ويُصلُّون برموش عيونهم، وبينهم وبين الله وخلقه عمارٌ دائم.

الإنسان الجميل هو تلك المرأة التى تصاب بالورم الخبيث؛ لتُنتزَع من جسدها قطعة، ثم تكِدّ لتبنى بيتًا صغيرًا لأولادها لكى يلمّهم مع زوجاتهم وأولادهم، وتسابقُ الريح فى الطريق من أجل أن تصل مع زوجها المريض إلى المستشفى لتنقذ قلبه المُهترئ، وتشترى له الدواء، ثم تذهب إلى عملها تُدير المنازل وتحفظ أسرارها، وتغنى مع أم كلثوم فى لحظةِ صفاء رغم قسوة العيش وقيظ الحر.

والأخرى التى تُبَدِّل الطريق بالطريق والعربة بالأخرى ليأكل الإسفلت من بدنها، فى لهاثها المحموم فى العاصمة المجنونة من أجل أن تخدم هنا بيتًا وتطعم وتسقى هِرَّة هناك، ثم يأتى آخر الليل حاملةً لبناتها الماء والدواء والغذاء، وتبسط جناحيها عليهن من أجل أن يحفظهن الله من الغدر والخيانة والزمن؛ فتبدو وكأنها توسوس من المجهول؛ لكنها أرملة، وتعيش بطلة، وتنام قريرة العين لأن أحدًا لم ينزعج من فعلٍ فعلتهِ، أو من عملٍ قصَّرت فيه، وتعيشُ بسيطةً كثيابها، وجميلةً كابتسامتها.

الإنسان الجميل يؤنسك وتؤانسه، ويُعديك بإنسانيته، فتحمل معك فى سلةٍ بعض البرتقال وأزهار الليمون وبعضًا من جماله وإنسانيته لتدور بها على مَن تلاقيهم. الإنسان الجميل يُعطى فى حدود، ولا يجور على نفسه، ويحمد ربه، ويقول: «الحمد لله على كل شىء».

TAGS
RELATED POSTS
خليل فاضل
القاهرة، مصر

كاتب ومحلل نفسي، قاص وروائي، يعالج بالسيكودراما الحديثة في مصر، له مقال أسبوعي كل يوم جمعة ينشر في صحيفة المصري اليوم، كما تشهد له قنوات اليويتيوب بعديد من اللقاءات السخية نفسية واجتماعية، كما أنه يمارس مهنة الطب النفسي منذ حوالي 41 سنة

بحث
أحدث التعليقات