مقال

سيمفونية الصوت والصدى وظلال الهمهمة

بواسطة
في
نوفمبر 15, 2024

دقاتُ قلب الجنين من الجهاز الكاشِف، ينتشى بها الوالدان مع ابتسامةٍ من الطبيب ومشاهدة حركة الجنين، ومنذ تلك اللحظة التى ندخل فيها إلى هذا العالم الضوضائى، نطلق جلجلةَ صراخٍ وبكاء، تُشَنّف لها آذان الأهل، ويستقبلونها بصيحاتِ التهليل والدموع والزغاريد، ونسمع همهمة الأم، حينما يؤتى بالوليد عاريًا مُضمَخًا بسوائل الولادة إلى حضنها.

إن الصوت فى أشكاله المختلفة هو لغتنا الأولى، التى يتردد صداها داخل أروقتنا، ليطبع فى الذاكرة أحداثًا كُثرُ، ونحن أطفال نرتبط بالصوت فى شكله الفطرى، صوت هدهدة الأم وغنائها، أو آهاتها ووجعها، وزعيق الأب ونغمات الراديو، أصوات الباعة الجوّالين، ثم تلك الكركرات أثناء اللعب مع الأصدقاء، وحفيف أوراق الشجر فى عناقها، أو فى مصارعتها للريح، أو عند مقاومتها للسقوط فى الخريف، أو لدى ازدهارها وبزوغها فى الربيع، أو ذلك النداء من طيرٍ بعيد يصرخ فى البرية، وآخر يشق صدر السماء عند البحر فى رحلاته الموسمية، زرافاتٍ ووحدانا لتكوِّن المقطوعات الأولى من السيمفونية الحياتية الخاصّة، تلك التى تتردّد موجاتها المُطَمئِنة، ككلمات الحكمة المنطوقة، كى تُكمِل دورةً كاملة تترسّخُ فى أذهاننا.

فى الطفولة يكون الصوت مجرد اكتشاف، وكل صدى له يبدو سحريًا مثيرًا، كما لو أن العالم كله يحادثنا ويراجعنا، وصوت الوالدين عندما ينطقان باسمك؛ فتتعرف عليه وتشكِّل به كيانك، وحدود مكانك وأطراف وتكوينك، ليكوِّن لحنًا يطمئنِك ويدعمَك، مع الأصوات المتشابكة كوشوشة الحبيب، ورفرفة الفراشات وزخّات المطر، مما يخلق تناغمًا مُركبًا.

وتُطِلُّ الموسيقى كانعكاسٍ للحياة كلها، لتدلف الألحان إلى داخلك، وتكوِّن تشابكًا مع الوجود، لتبدأ ترنيمات الأطفال وهدهداتِ أمهاتهم، ولتكتب أولى مراحل النوتة الموسيقية، التى تجوب أرجاء الأرض، وعندما تصير مراهقًا تتشكَّل أفكارك وإدراكك، لتصبح الموسيقى ذلك الوعاء الانفعالى التعبيرى الجميل، الذى تبحر فيه مشاعرك المضطربة، تدغدغ حواسك وتنادى صدى طفولتك، والأحداث التى مررت بها، تحمل وزنًا ومعنى؛ فتختارها بتلك الضربات المتمرِّدة على العود، والقوية على البيانو والساحرة من الكمان، لتجد نفسك مستسلمًا لصدى مختلط، من الماضى والحاضر وربما المستقبل، تلك السنوات التى مرَّت كنصل السكين فى الزبد، وكأنك لتوِّك قد بدأت رحلة التعرف على نفسك وإيقاع خطواتك.

وعندما تصير راشدًا، يتخذ الصوت بعدًا جديدًا؛ فيصبح جسرًا بين عالميك الداخلى والخارجى، ولتصبح همهمة الحياة اليومية.. الخطوات والمحادثات والنقر فوق الكيبورد، هزّات ورنّات الموبايل وجرس الباب.. موسيقى تصويرية لمسؤولياتنا، وفى خِضّم تلك الضوضاء الدنيوية، توفر لنا الموسيقى ملاذًا؛ فالأغانى التى نلجأ إليها خلال لحظات التفكير أو الاحتفال بعيد ميلاد أو زفاف أو حِنّة أو سُبُوع، تحمل أصداء الماضى، لتذكرنا من أين أتينا وإلى أين نحن ذاهبون، إنها تلك اللغة فى أكثر أشكالها شعرية، لا توجد فقط فى الكلمات، ولكن فى إيقاعات تفاعلاتنا اليومية، الطريقة التى ننصت بها إلى صديق، وصوت مُشترى الروبابيكيا المُزعِج والمُتكرِّر.

ومع اقتراب الشيخوخة، تصبح أصوات الحياة أكثر هدوءًا وسلاسة وخفوتًا؛ فتتباطأ السيمفونية النابضة بالحياة إلى وتيرةٍ مُحكَمَة، تثرينا بأصداء الماضى الخافتة، الحاضرة والمكوّنةً للذكريات، التى تثيرها الأصوات المألوفة والألحان المفضَّلة، والدندنة المُؤثرة.. فى هذه المرحلة، يأخذ الصوت والموسيقى صفةً روحانية، تربطنا بالماضى وتوجهنا نحو التفكير والاطمئنان، لتصبح ضحكاتِ الحفيد ومناداته لك «يا جِدّو»، أو همسات الجيتار، أو حتى صمت المساء، يحِلُّ هادئًا وعميقًا فى بساطته.

فى سن الشيخوخة، نصل إلى دائرةٍ مُكتمِلة، لغة الموسيقى والصوت التى استقبلتنا لأول مرة كأطفال، تعمل الآن كرفيق يؤنسنا، تُهَدِّئنا ونحن نقترب من نهاية الحياة، تتردد أصداء المحادثات والألحان واللحظات السابقة فى أذهاننا، وتذكرنا بأن الحياة، مثل الموسيقى.. دورية، من صرخة الطفولة الأولى إلى النغمة الأخيرة لحياةٍ مثمرة، الصوت والصدى من الثوابت التى تحملنا خلال الرحلة، وتعلِّمنا الاستماع والشعور والتواصل.

فى النهاية، الصوت ليس مجرد تجربة حسِّية فى النهاية، إنه ذلك الخيط الذى ينسج وشائج وجودنا معًا، إنه لغة الموسيقى التى تشكَّلت من أصداء تجاربنا، تجوب معنا الحوارى والأزقة والميادين وتذكّرنا ببراءة الطفولة، وتحديات البلوغ، وانعكاسات الشيخوخة، وفى ذلك الصمت الأخير، نجد أن السيمفونية قد قاربت على الانتهاء، لكنها ستظل خالدةً كالأصداء الودودة.

«إن لهذا الصمت العميق لحنًا خاصًا به، حلاوة غير معروفة وسط النزاعات والخلافات حول العالم» بول برونتون.

TAGS
RELATED POSTS
خليل فاضل
القاهرة، مصر

كاتب ومحلل نفسي، قاص وروائي، يعالج بالسيكودراما الحديثة في مصر، له مقال أسبوعي كل يوم جمعة ينشر في صحيفة المصري اليوم، كما تشهد له قنوات اليويتيوب بعديد من اللقاءات السخية نفسية واجتماعية، كما أنه يمارس مهنة الطب النفسي منذ حوالي 41 سنة

بحث
أحدث التعليقات